لغز السفينة ماري سليست - سفينة الأشباح
يوجد الكثير من أساطير عالم البحار وحكاياتها الخرافية، حضارة مفقودة وحش أسطوري، دوامة مائية وكأنها بوابة لعالم موازي اخر، سفن وأشباح وغيرها، لكن ما حدث مع سفينة ماري سليست ليس أسطورة أو حكاية خرافية، بل أنها قصة حقيقة.
لسفينة أمريكية تم العثور عليها في عرض المحيط فارغة تماماً، لم يتم العثور بداخلها على القبطان وطاقم السفينة ولم يروا مرة ثانية، ليتركوا ورائهم أحد الألغاز الأشد غرابة من الأساطير والحكايات الخُرافية.
حادثة السفينة ماري سِيليست (Mary Celeste)
في السابع من نوفمبر عام 1872م، انطلقت سفينة الشحن ماري سِيليست (Mary Celeste) من ميناء نيويورك في طريقها إلى مدينة جنوة (Genova) بإيطاليا، كان يوجد على متن السفينة قائدها بنجامين بريغز (Benjamin Briggs) وزوجته سارة وابنتهم صاحبة العامين من عمرها صوفيا، بالإضافة إلى باقي طاقم السفينة المكون من 8 أفراد.
كانت السفينة مُحملة بـ 1700 برميل من الكحول المُركز، وبعد مرور أقل من شهر تحديداً في الرابع من ديسمبر عام 1872م وخلال رحلة السفينة الكندية دي جراتيا (DEI GRATIA) في نفس المسار، لاحظ قبطانها ديفيد مورهاوس (David Moorhouse) بواسطة منظاره وجود سفينة هائمة تقف في عرض المياه بشمال المحيط الأطلسي.
وعند تدقيق النظر إليها، تمكن من التعرف على سفينة ماري سِليست، حيث كان على علم أن هذه السفينة قد سبق وخرجت قبله من نيويورك منذ 8 أيام، ومن المفترض أن تكون قد وصلت لوجهتها بالفعل، استغرب القبطان مورهاوس من عدم وجود أي حركة على متنها، بلإضافة إلى عدم وجود أي إشارة صادرة منها.
ومن هنا قرر مورهاوس بتغير وجهته والإبحار نحوها، فأمر 3 من أفراد طاقم سفينته بالصعود على متنها، وهنا كانت المفاجاة،
الحمولة على متن السفينة كما هي، بالإضافة إلى مُقتنيات طاقم السفينة منها طعام وشراب يكفي لمدة ستة أشهر، ولا يوجد عليها أي مخلوق منهم، وكانت أهم المفقودات من السفينة بجانب إختفاء طاقم السفينة عدم وجود قارب النجاة، حيث لا يوجد أثار حريق على السفينة أو عراك، بل أن السفينة كانت في حالتها الطبيعية سليمة غير مُعطلة تُعيقها من الوصول إلى وجهتها.
فلماذا كل من كان على السفينة هجرها حتي بدون أخذ متعلقاتهم الشخصية معهم، علمًا أن قائد السفينة بريجز كان من القادة المُحنكين له باع في عالم البحار يصل لحوالي 18 عام، بالإضافة أيضًا إلى طاقم سفينة مُخضرم من البحارة القدامي وليسوا فريقًا من الهواه.
بعد صعود القبطان مورهاوس إلى السفينة قد لاحظ أن معظم أوراق السفينة الخاصة مفقودة بالإضافة إلى أدوات القبطان الملاحية، لكن سجل السفينة كان موجودًا، وهو الذي يُسجل فيه قبطان السفينة كل ما يتعلق بأحداث رحلتهم من مسار الرحلة وغيرها، وكان آخر تاريخ سُجل كان في الساعة الثامنة صباحًا من يوم 25 نوفمبر، أي من حوالي تسعة أيام.
والتي ذُكر فيه أن السفينة ماري سِليست كانت على مقربة من سانت ماريا، الجزيرة الجنوبية من مجموعة جزر الأزور (Azore) في قلب المحيط الأطلسي، وبما أن سجل السفينة يتم التدوين فيه خلال كل ساعة تقريبًا، فـ أيا كان الذي حدث لـ “ماري سِليست” وركابها، قد حدث في هذه المنطقة مُنذ 9 أيام.
وفي الوقت الذي عثر فيه القبطان مورهاوس على السفينة ماري سِليست، كانت قد انجرفت عن وجهتها الأصلية بمقدار 750 كم، ومنذ ذلك الحين لم يظهر أي أثر لطاقم السفينة وقبطانها، فما الذي حدث على متن سفينة ماري سِليست ولماذا فرا طاقمها من عليها، هذه كانت الأسئلة الذي شغلت الرأي العام وتصدرت عناوين الصُحف وقتها.
تاريخ سفينة ماري سِيليست الملعون
قبل التطرق إلى السبب والكشف عن حقيقة ما حدث، دعونا نُلقي نظرة خاطفة على التاريخ الغريب أو الملعون كما يصفه البعض للسفينة، فتاريخ السفينة مليئ بالأحداث الغريبة وبعضها غير مفهوم.
كانت الرحلة الأولى لهذه السفينة عام 1861م، أي قبل حدوث هذه الواقعة الغامضة بمدة بلغت الـ 11 عام، وكانت السفينة وقتها تحت ملكية كندية ومسجلة بإسم الـ أمازون، وكانت وجهتها محددة من المقاطعة الكندية نوفا سكوشا (Nova Scotia) إلى لندن، لكن ما حدث أنه تم تأجيل الرحلة الأولى للسفينة بسبب تعرض قبطانها لمرض وتوفي على أثره.
بعد ذلك أبحرت السفينة مع قائدها الجديد في المحيط الأطلسي، لكنها تعرضت لحادثه بعد اصطدامها بمعدات صيد بالقرب من مدينة إيست بورت الأمريكية (Eastport)، وبعدها بوقتًا ليس بالطويل تعرضت السفينة لحادثه آخرى بعد اصطدامها بسفينة في بحر المانش أو القناة الإنجليزية.
وبعد مرور سنوات من المعاناة على أصحابها والعاملين عليها، جنحت السفينة لأحد الشواطئ بعد عاصفة شديدة في أكتوبر عام 1867م، وبسبب الأضرار التي تعرضت لها السفينة، قررا أصحابها بتركها كما هي بعد فقدانهم الأمل.
بعدها انتقلت ملكيتها لأكثر من مرة إلى أن استقرت في يد أمريكية وتم إعادة صيانتها وتسميتها بإسم جديد وهو ماري سِليست، حيث أصبح القبطان بنيامين بريجز قائدها وأحد المستثمرين بها.
اتهام مورهاوس بالاستيلاء على ماري سِيليست
بالرجوع للواقعة الغامضة بعد معاينة السفينة ماري سِليست، وعدم قدرتها على الإجابة عن أي سؤال متعلق باختفاء طاقمها، قرر القبطان مورهاوس اصطحاب السفينة معاه إلى جبل طارق على بُعد يبلغ الـ 1100 كم من موقع عثوره عليها، لأنه بحسب القانون، أي شخص يتمكن من المساعدة في إنقاذ أو استعادة سفينة أو شحنة شخص آخر، .
يحق له الحصول على مكافأة تتناسب مع قيمة الشحنة والممتلكات المنقولة، ومع وصولهم لجبل طارق، تم مصادرة السفينة من قبل السلطات وعُقدت جلسات استماع في المحكمة لدراسة الواقعة والتحقيق في مجرياتها والوصول لقرار بشأن مكافأة القبطان مورهاوس.
في البداية، كان لدى المحكمة شكًا أن الموضوع وراءه شيئًا غامضًا، وأن إختفاء القبطان وعائلته بالإضافة إلى طاقم السفينة متعلق بجريمة، حيث تم العثور على بقع حمراء على الأرضية في بعض أجزاء من السفينة وكذلك على سيف القبطان، لذلك من الممكن أن تكون دماء، في إشارة تُفيد بوقوع جريمة على متنها.
فكانت الفكرة المقترحة من المدعي العام، هي أن طاقم السفينة دخلوا في حالة من السُكر وعلى أثرها قاموا بق*تل القبطان بريجز وأسرته وألقوا بهم في المياه قبل استخدامهم لقارب النجاة ليهربوا، لكن ما أثبتته المعينات أن البقع الحمراء الموجودة على متن السفينة لم تكن بقايا من الدم، بالإضافة إلى عدم وجود سرقة للمقتنيات الخاصة بالقبطان وأسرته.
نظرية آخري تبين أن تم طرح السفينة والاستيلاء عليها من قبل مجموعة من القراصنة وقُتل كل من عليها، لكن مثل الادعاء الأول لم يكن هناك أثار بالتعدي أو العنف على متن السفينة، بالإضافة إلى أن الحمولة والمتاع والأكل والشراب جميعا كانت موجودة كما هي على متن السفينة.
وسط كل هذه النظريات، كان هناك إدعاءً يُشير بأصابع الاتهام إلى القبطان مورهاوس وطاقم سفينته، وأنه من الممكن أن يكون هو من صعد وطاقم سفينته وتخلصوا من أثار جريمتهم، وتم خلق هذه القصة بهدف الحصول على مكافأتهم من استرجاع السفينة.
وعلى الرغم من أن هذا الإدعاء لم يُذاع بشكلٍ سمي ولا توجيه الاتهام إلى مورهاوس إلا أنه كان له صداه وسط أجواء جلسات الاستماع, وبعد مرور ثلاثة أشهر من بدء الجلسات، تم الافراج عن السفينة وتم تسليم القبطان مورهاوس وطاقمه حوالي 8000 دولار ما يُعادل 160,000 دولار في وقتنا الحالي، وبالرغم من الافراج عن السفينة وعدم توجيه أي اتهام لشخص، إلا أن لغز سفينة ماري سيليست مازال دون إجابة، لا يعلم أحد ما حدث تحديداً وقتها.
قصص خيالية عن السفينة ماري سِيليست
في العقود اللاحقة لواقعة إختفاء طاقم السفينة، انتشر صدى القصة في مختلف أنحاء العالم، ومثلها مثل معظم القصص، كلما مر الزمن عليها كلما تم إعادة حكيها، تم إضافة لها بعض الأحداث المبالغ فيها لتُزيد من إثارتها.
ففي عام 1883م، نشرت الصحيفة الأمريكية The Los Angeles Times قصة غير حقيقية بالمرة عن واقعة سفينة ماري سِليست، ذكرت فيها أن السفينة تم العثور عليها في أفضل حال ونيران الطعام كانت متوهجة في موقد المطبخ، والأكل كان يوضع بالفعل على طاولة الطعام، وآخر تاريخ بسجل السفينة تم تدوينه، كان قبل ساعة واحدة بس من العثور عليها.
وطبعًا كان الهدف من ذلك هو زيادة غرابة الواقعة وفتح الباب لخيال القراء عن ما الذي حدث لطاقم السفينة، وفي السنة التي تليها بعد نشر هذه القصة، قام الكاتب الانجليزي كونان دويل (Conan Doyle) قد كتب قصة قصيرة بناءً عن واقعة السفينة ماري سيليست، وكونان دويل هذا الذي بعد ذلك سوف يألف قصص المحقق شارلوك هولمز (Sherlock Holmes).
وبالرغم من أن القصة كانت معتمدة في أساسها على طرح الموضوع بشكل خيالي وحبكة درامية، لكن مثلها مثل قصة الصحيفة الأمريكية؛ استهوت القُراء واعتمدوا بعض أحداثها على أنها حقيقية.
وأيضًا بعد كافة هذه الأحداث الُمزيفة للقصة، صعّب من فكرة الوصول لتفسير منطقي عن حقيقة ما حدث على متن السفينة، وبالرغم من أنه يوجد بعض التفسيرات المنطقية التي ظهرت في محاولة لحل اللغز، إلا أن معظم الأشخاص مازالو غير مقتنعين بها، ويميلون أكثر ناحية وجود أسباب غير طبيعية.
وهذا متفهم جدًا، خصوصًا وبالرغم من الجهود المبذولة في محاولة تفسير ما حدث على السفينة ماري سِليست، إلا أنه وبعد أكتر من 150 عام، مازال لا يوجد تأكيد بنسبة 100% عن حقيقة ما حدث، ومثلها كبقية أسرار عالم البحار وكنوزه المفقودة، يظل لغز اختفاء طاقم سفينة ماري سِليست مفقود هو الآخر ولا يعلم حقيقته سوى الله سبحانه وتعالى.